تميزت ماري
بموقعها الاستراتيجي وإمكاناتها الاقتصادية وفعالياتها الحضارية
وصلاتها المختلفة بممالك الشرق
القديم (مثل: أور، كيش، إيسين، لايسا، أوروك، نيبور، أشنونا، بابل، إيبلا، أكاد،
آشور، يمحاض). واشتهرت ماري كعاصمة للسلالة العاشرة بعد الطوفان، مما يدل على قدمها.
وكان من أشهر ملوكها «آنسود»، الذي ربما كان مؤسس هذه السلالة
الحاكمة، التي حكمت نحو 136 عاماً. وتجدر الإشارة إلى هدية ملك أور (ميسانيبادا) إلى
حليفه ملك ماري
(آنسود)، التي اكتشفت في ماري، وهي محفوظة في المتحف الوطني بدمشق،
تجسد العلاقات الودية بين ملوك
هاتين المملكتين. وكان
التنافس الدولي ورغبة ملك أوروك «لوجال زاجيزي» في التوسع، مما
أساء إلى العلاقات بين مملكتي
ماري وأوروك، بل وأدى ذلك إلى حرب عنيفة، انتهت بقضاء «لوجال زاجيري» على مملكة ماري
وازدهارها الحضاري، فغدت مدينة عادية. ولكن إمكاناتها الاقتصادية وصلاتها الودية
الدائمة بعرب البادية والموجات العربية، يفسر لنا سرعة تحررها من النفوذ
السومري واستئناف فعالياتها المختلفة من جديد. وقد أصبح
الأكاديون عصرئذِ قوة هامة في المنطقة وشكلوا إمبراطورية هامة وتوسع ملكهم سرجون
الأكادي، حتى وصلت حملته
الحربية إلى غابة الأرز في لبنان. وعرف (ميجير دجن»، حاكماً لمدينة ماري في ذلك العصر، ثم
ظهر نارام سين بفتوحاته الحربية، التي خلد أحدها بنصب حجري هام محفوظ في متحف
اللوفر. ولكن حكم الأكاديين في ماري لم يدم طويلاً، وينسب بعضهم ذلك إلى
غزوات القوطيين، وأثرها الكبير في تغيير الوضع الدولي السائد في ذلك
العصر، وظهور اضطرابات في عهد سلالة أوروك الرابعة والخامسة. وفي عهد سلالة أور
الثالثة، استطاع قواد ماري الموهوبون أن يظهروا كحكام هذه المدينة وعرفوا
بلقب شاكاناكو، واستمر حكمهم من نحو 2285ق.م حتى نحو 1755ق.م. وبعدما
أصبح للعموريين أهمية كبيرة في بداية الألف الثالثة قبل الميلاد، شكلوا ممالكهم العمورية
وازدادت فعالياتهم، التي تتحدث
عنها نصوص الرُقم الطينية المكتشفة في ماري وغيرها. وكان أشهر ملوك العموريين، ياجيد
ليم، الذي اتخذ ماري عاصمة له، وتنازع مع إيلا كابكابو وشمش حدد، واشتهر ملك ماري
«يهدون ليم» بقوته، التي جعلته يعرف كملك حرب وقتال، قاد حملات حربية وحقق مشاريع
ري مفيدة. وعندما استولى الآشوريون على ماري، عهد الملك «شمش حدد»
إلى ابنه «يسمع حدد» بحكم ماري. كانت الاضطرابات والفتن
المختلفة قد جعلت «زمري ليم» يلجأ إلى قصر «ياريم ليم»، الذي أدرك بذكائه أهمية موقع ماري،
عاصمة الفرات الأوسط وطاقات شعبها وإمكاناتهم المختلفة، وفائدة تأكيد الصلات الودية بين
مملكتي ماري ويمحاض. كل
ذلك يفسر دعمه للأمير «زمري ليم»، بل وزواج هذا الأمير لأسباب سياسية
من ابنة ملك يمحاض. واستفاد
«زمري ليم» من الظروف الدولية المستجدة في ذلك العصر، ومن ضعف مملكة أشنونا، ووفاة الملك الآشوري
«شمش حدد»، وضعف وتردد ابنه «يسمع حدد»، الذي هرب من ماري، مما جعله يستغل
الدعم العسكري الكبير، الذي قدمه له ملك يمحاض «ياريم ليم». فاستطاع زمري ليم
أن يحرر بلاده ويطرد المحتلين منها، بعدما دام حكمهم فيها نحو 28 عاماً، من
عام 1260ق.م حتى عام 1232ق.م، ثم أخذ ينصرف إلى تنظيم مملكته من رواسب
الفتن والاضطرابات، فتطلب ذلك منه نحو عام أو عامين وقد زودته الحياة بتجارب
وخبرات جديدة مفيدة وهامة في ميادين السياسة والعلاقات الدولية
والعمران والاقتصاد والفنون، مما جعله يحقق لبلاده الازدهار الاقتصادي
والنهضة الفنية، التي تجلت في فنون العمارة والنحت والتصوير الجداري والحفر
والفنون لصناعية وفن الكتابة على الرُقم الطينية. استطاع بعد خمسة أعوام من حكمه
أن يحقق انتصاراً حربياً على مملكة أشنونا، مما يفسر قوله المأثور بأنه (انتزع من بلاده
ظفر أشنونا)، التي كانت حليفة ملك الآشوريين «شمش حدد»، كما استطاع «زمري ليم» أن يفرض
هيبة الحكم ويأمر الولاة بإرسال تقاريرهم إليه ويحرض على حسن اختيار حكام
المناطق في بلاده، مثل تعيينه «ماري لاناسوم» حاكماً على توتول
تل
البيعة قرب الرقة حالياً. وإن المراسلات المتبادلة
بين حمورابي وزمري ليم، توضح الظروف الدولية عصرئذٍ. استطاع ملك
بابل «حمورابي» أخيراً أن يحقق انتصاراً حاسماً على «زمري ليم» ويقضي نهائيا على مملكة ماري وسلالتها
الحاكمة،التي استطاع بعض أفرادها الوصول إلى ترقا تل العشارة ومتابعة الحياة فيها. وفي عهود
الآشوريين كانت ماري مدينة صغيرة، تابعة لإمبراطورية الآشوريين
يحكمها «شمش رش أوزور»، كما
يحكم بلاد سوهو (ترقا). وبعدما قضى الكلدانيون والميديون على إمبراطورية
الآشوريين نهائياً عام 609ق.م. شكل «نابو
بولاصر» قيادة في ماري وبلاد سوهو. وفي العصر الهلنيستي، انتقلت شعلة الحضارة في
حوض الفرات إلى مدينة دورا أوروبوس، قرب قرية صالحية الفرات. وعندما قضى الفراتيون على مدينة
«دورا» عام 256م، كانت مدينة ماري قليلة الأهمية قرب تل مدكوك، الذي لفت
نظر الرحالة إلى حوض الفرات، وقد نسيت الأجيال مملكة ماري حتى تاريخ
اكتشافها عام 1933م. |